الدواء بين أحاديث أهل البيت والعلم الحديث
د. سعد بداي الخزاعي
مقدمة
تناول الدواء قديم قدم البشرية نفسها، وهو من السلوكيات الحياتية التي تكاد تكون فطرية عند الإنسان، بل وعند الحيوان أيضا، إذ وثقت العديد من الدراسات التي تعنى بسلوك الحيوان الكثير من الشواهد على استخدام الحيوانات مواد نباتية أو معدنية غير ذات فائدة غذائية لغرض التداوي والتخلص من الطفيليات وتسهيل الولادة.
والحديث عن مفهوم الدواء والتداوي في فكر أهل البيت (عليهم السلام) يصب في محور الحديث عن العلاقة بين العقيدة الدينية والممارسة الطبية، وهو جانب ذو تفاصيل متشعبة من الناحيتين التاريخية والعلمية إذ كثيرا ما تتباين الآراء بين أصحاب الملل المختلفة حول ممارسة طبية معينة بين مؤيد ومعارض، وعلى سبيل المثال، فقد ترى بعض الطوائف حرمة استخدام الدواء، وتعده مخالفا للرضا والتسليم أو منافيا للإيمان بالقدرة الإلهية على شفاء العبد المريض الذي عليه أن ينتظر أمر ربه بالشفاء انتظارا سلبيا تحت عنوان التسليم!
ولا ريب أن الممارسة الطبية اليوم والقائمة على مبدأ (الطب المعتمد على الأدلة- Evidence-Based Medicine) قد نقضت الكثير من المباني الاعتقادية للممارسات الطبية في بعدها الديني والعقائدي لثبوت مخالفتها لمبادئ الطب الأساسية وغاياته وهي منع الداء قبل وقوعه ومعالجته بعد وقوعه.
تهدف هذه المقالة إلى تقديم مقارنة ثقافية وعلمية بين الفكر الدوائي عند أهل البيت (عليهم السلام) وبين ممارسات الطب الحديث، مسلّطة الضوء على نقاط الالتقاء والاختلاف.
أهمية الدواء والتداوي في أحاديث العترة:
بالرغم من وجود مفهوم التسليم المطلق لله والتوكل عليه -سبحانه- في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) إلا أنهم أكدوا مرارا على أهمية التفريق بين التوكل والتواكل وبينوا أن التسليم لا ينافي العمل بالأسباب الطبيعية وهذا المعنى يتكرر في أكثر من حديث ومناسبة كما في الحديث النبوي المشهور(إعقلها وتوكل – ميزان الحكمة للريشهري ج 4 ص 3661) ، وفي هذا الحديث يؤكد الإمام الصادق هذه القاعدة الوجودية الأساسية باعتبارها من الأسس العقلية التي يجب مراعاتها في التفكير والسلوك، ولا تصح مخالفتها:
(عن أبي عبد الله -عليه السلام- أنه قال: أبى الله أن يجري الأشياء إلا بأسباب، فجعل لكل شيء سببا، وجعل لكل سبب شرحا، وجعل لكل شرح علما، وجعل لكل علم بابا ناطقا، عرفه من عرفه، وجهله من جهله...) الكافي ج1 ص 183
وبناء على هذه القاعدة يؤسس أهل البيت ضرورة التداوي في حال المرض، ويفندون شبهة التسليم بديلا عن الأخذ بالأسباب الطبيعية، بل يعلموننا أن الأخذ بالأسباب هو سنة الله تعالى وهو الذي أمر بها كما يتضح من الحديث السابق، ويكون الأخذ بالتداوي ضرورة شرعية لا محيص عنها كما يبين الحديث التالي:
((الإمام الصادق عليه السلام): إن نبيا من الأنبياء مرض، فقال: لا أتداوى حتى يكون الذي أمرضني هو الذي يشفيني، فأوحى الله تعالى إليه: لا أشفيك حتى تتداوى، فإن الشفاء مني …)) ميزان الحكمة للريشهري ج 2 ص 940
وفي هذا السياق لا يكون التداوي مجرد ممارسة علاجية، بل ضرورة شرعية يحث عليها الشرع، ويلزم المريض بها، وهذا يطابق المعايير العلمية الحديثة التي تحث على وجوب التداوي في حال المرض وعدم الاكتفاء بالممارسات الطقوسية والعبادية بديلا عن الدواء.
فعن الإمام أبي جعفر الباقر (ع): «… إنَّ الله جعل في الدواء بركةً وشفاءً وخيرًا كثيرًا، وما على الرجل أنْ يتداوى، ولا بأس به» (طب الأئمة (ع) -السيد عبد الله الشبر- ص 57)
وما ورد عنهم (عليهم السلام) من أحاديث في مجال العلاج والوقاية لكثير من العلل (وخصوصا الدواء العشبي) يكاد لا يحصى لكثرته.
التداوي في فكر أهل البيت (عليهم السلام)
ركزت العديد من الأحاديث الشريفة على التأصيل لفرضية علمية ما زال الطب يثبت صحتها يوما بعد يوم تعد ميزة شمولية لمفهوم الدواء والعلاج، إلا وهي أن (لكل داء دواء) ، وتبدو هذه المقولة غير دقيقة علميا بمفهوم الطب المستند على الأدلة ، إذ لا تزال الأدلة العلمية قاصرة عن إثباتها تجريبيا ولا يزال السؤال الجوهري في الطب هو : هل سيأتي يوم تجد فيه البشرية دواء لكل داء بما في ذلك ما يعرف اليوم بالأمراض المستعصية ككثير من أنواع الأورام الخبيثة Malignant diseases والأمراض المناعية الذاتية Autoimmune diseases ؟
ويجيب الأئمة عن هذا السؤال بالإيجاب:
عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام): «أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال: تداووا، فما أنزل اللهُ داءً إلا أنزل معه دواءً، إلا السام -يعني الموت- فإنَّه لا دواء له (دعائم الإسلام -القاضي النعمان المغربي- ج 2 / ص 143..
وفي هذا المعنى أخبار كثيرة تعطي الأمل والدافع للمريض والطبيب في أن الداء الذي لا يعرف علاجه اليوم قد يكتشف غدا، ولا ريب أن هذه القضية تثبت يوما بعد يوم، ففي كل يوم هناك تقدم طبي في مجال المعالجة وهناك دواء جديد يمنح الأمل للكثير من المرضى الذين كانوا يظنون أن لا علاج ناجع لأمراضهم، بل إن التفاؤل بين الأوساط العلمية بقرب الوصول إلى علاج الأمراض المستعصية اليوم أكثر مما مضى إذ تتجه التوقعات الطبية نحو مستقبل واعد في علاج العديد من الأمراض المستعصية، مدعومة بتقدم تقنيات مثل العلاج بالخلايا الجذعية، والعلاج الجيني، والذكاء الاصطناعي.
وعلى سبيل المثال، يتوقع الدكتور إريك توبول - معهد سكريبس للأبحاث ما يلي:
«سيُحدث علم الجينوم والذكاء الاصطناعي تغييرًا جذريًا في تطوير الأدوية. بحلول عام ٢٠٣٠، قد يكون من الممكن علاج العديد من الأمراض الوراثية النادرة من خلال تصميم أدوية مُخصصة ومركبات مُتنبأ بها بالذكاء الاصطناعي.»
فيما ترى د. ماريا كاريلو عضو جمعية داء الزهايمر الأمريكية أنها مؤمنة بأن التقدم في البحث العلمي يمكن أن يؤدي إلى علاجات فعالة لأمراض مثل الزهايمر، مؤكدة على ضرورة الاستمرار في دعم الأبحاث وتطوير العلاجات المبتكرة.
وفي ضوء هذه التوقعات التي أصبحت وجهة النظر الأكثر قبولا في المجامع العلمية الطبية يتراءى لنا البعد العابر للزمن لمقولة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) أعلاه.
ثقافة تناول الدواء:
تلقي العديد من الأحاديث الواردة عنهم -عليهم السلام- الضوء على قضايا سلوكية تتعلق بطريقة تعامل المريض مع الدواء الموصوف، مبنية الآثار الجانبية لهذا الاستخدام وضرورة التنبه لها ومن الأحاديث اللافتة في هذا السياق قول الإمام الرضا (عليه السلام) :
( ليس من دواء إلا وهو مفتاح داء، فدع الدواء ما احتملت بدنك الداء) - العيون، ابن بابويه، ج2
والحقيقة أن هذه الملاحظة الرضوية تعد من أساسيات الطب وعلم الأدوية Pharmacology اليوم، فليس كل عارض صحي مستوجب لوصف العلاج؛ إذ إن الدواء مثلما يحمل الشفاء يحمل معه بعض الاختلالات الفسلجية التي قد يسببها، والتي تعرف بالأعراض الجانبية side effects والتي يكون بعضها أخطر من الداء نفسه أحيانا. ذلك أن الدواء مادة كيميائية غريبة Xenobiotic يتعامل معها الجسم تعاملا مختلفا عن تعامله مع الأغذية والمواد الضرورية للعمليات الحيوية داخل الجسم، إذ يحوله إلى الكبد الذي يكسر جزيئاته وتحويلها إلى جزيئات أصغر يسهل التخلص منها عبر الجهاز الهضمي أو البولي وهي عملية قد تطول إلى أيام يكون الدواء خلالها قد تسبب بتغيير فعاليات حيوية عديدة داخل الجسم حيثما مر.
وكذلك يطرح الحديث الرضوي أعلاه حقيقة علمية تعد من مبادئ الممارسة الطبية وهي الموازنة بين ضرر العلاج وفائدته Risk – Benefit Ratio والتي يحدد من خلالها الطبيب فائدة العلاج للحالة المرضية، فيقرر استخدامه من عدمه.
ومن الواضح أن هذه الرؤية تنسجم مع الفلسفة الحديثة في ترشيد استعمال الأدوية لتقليل ظاهرة تعدد الأدوية Polypharmacy ، والتي تؤدي إلى مضاعفات كبيرة لا سيما عند كبار السن.
ولكن هذا التحذير لا يعني الابتعاد عن الدواء أو التخويف منه، فقد يضطر الطبيب بناء على قاعدة موازنة المنفعة والضرر أن يستخدم العلاج رغم خطورته، حيث ورد عن أهل البيت (عليهم السلام) ما يؤيد هذا الاستخدام، منها ما رواه في طبِّ الأئمة بسنده عن يونس بن يعقوب قال: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يشربُ الدواء، وربَّما قتله وربما يسلم منه وما يسلم أكثر. قال: فقال: أنزل اللهُ الداء وأنزل الشفاء، وما خلق اللهُ داءً إلا جعل له دواء: فاشرب وسمِّ الله تعالى. (طب الأئمة، السيد عبد الله شبر ص 57) ، وهنا يؤصل الإمام الصادق شرعيا لقاعدة علاجية أقرها العلم الحديث وهي لزوم تناول الدواء للحالات المستوجبة بالرغم من احتمالية الأعراض الجانبية الشديدة، فبعض علاجات الأورام والأمراض المناعية تسبب تأثيرات جانبية جدية، ولكنها لا تكون عائقا يحول دون استخدامها.
وختاما
لا نلحظ -في حدود ما استعرضناه- نقاط اختلاف جوهرية فيما ورد عن أهل البيت -عليهم السلام- عما تسالم عليه الطب اليوم من ناحية استخدام الدواء والمسائل المتعلقة به ما يؤكد وحدة المعرفة الشرعية والعلمية المادية؛ لأنهما ينبعان من سراج واحد وهو الحقيقة الشاملة التي أمسك أئمة أهل البيت صلوات الله عليهم بجميع أطرافها.