النوم ذلك الشيء العجيب
د. مصطفى نعمة
يُعدّ النوم ظاهرةً شاملةً للمخلوقات كلها، وفي البشر تتقاطع فيها الأبعاد الحيوية والنفسية والروحية، مما يجعلها محورًا مشتركًا بين العلوم المختلفة، ففي حين تنظر العلوم الطبية إلى النوم كحاجة فسلجية ضرورية لصحة الإنسان، تتعامل الفلسفة والأديان مع النوم كحالة وجودية تحمل دلالات عميقة تتعلق بالوعي، والروح، والموت، والبعث. ومن المعلوم أن الإنسان العادي يقضي ثلث عمره نائما ! 1-3
إنه آية من آيات الله، تحتاج تأملا عميقا ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ﴾ الروم: 23 . وعلى الرغم من تقدم الأبحاث العلمية، وكل من الأطباء وعلماء النفس والفلسفة وغيرهم كل قد أدلى دلوه، لكن من الغريب حقا أن لا يستطيعوا تعريفٌا حقيقيّا للنوم.
والنوم طبيا هو حالة بيولوجية نشطة يمر خلالها الجسم والدماغ بسلسلة من المراحل الحيوية التي يتغير فيها الوعي، ولكن لا يفقده، حيث تنشط فيها عدد من تراكيب ومراكز خاصة في الدماغ، وتثبط أخرى بصورة معقدة جدا.
ومن الناحية الظاهرية يتضمن مرحلتين رئيسيتين: الأولى تسمى نوم حركة العين غير السريعة NREM حيث يبدأ النشاط الدماغي بالخمول، وفيها يمكن أن يرى فيها النائم صورا، ويسمع أصواتا من الخيال أو كأنما يسقط من شاهق، أو يعثر عثرة فيستيقظ فزعا، ثم يرجع إلى النوم)، والثانية نوم حركة العين السريعة REM والذي يكون الدماغ فيها نشطا بالتخطيط الكهربي، ويلاحظ بجلاء من يراقب نائما أن عينيه تجولان بحركات غريبة كأنها ترى أشياء مدهشة من عالم آخر وفي هذه المرحلة تحدث الأحلام، ولكن العلماء لا يستطيعون تفسيراً لماذا يحدث ذلك عند الإنسان؟
ومما لا شك فيه أنه سبب لعافية كل أعضاء الجسم كما في قوله جل جلاله (وجعلنا نومكم سباتا)/ النبأ 9 حيث فسروا (السبات) بالراحة الجسدية. تُظهر الأبحاث أن النوم يساعد على إزالة السموم العصبية، مثل بيتا-أميلويد، ومن ثم يقي من أمراض عصبية مثل الزهايمر.
وقد وصفه بشكل غاية في الدقة الإمام الرضا عليه السلام –قبل البحوث الدقيقة الحديثة –بقوله (إن النوم سلطان الدماغ، وهو قوام الجسد وقوته) / البحار، وفيه إشارة إلى سيطرته على وظائف الدماغ وكذلك تعديل المزاج والتوتر وضرورة لعافية الجسد.
وكذلك فإنه -كما ذكر عليه السلام- فسلجيا راحة للجسد من التعب والألم حيث تسكن الأوجاع وتتغير بعض التراكيب الهرمونية والكيميائية في جسده ما يقلل من آلامه كل ذلك بنعمة الله ولطفه وإلا ما استطاع الإنسان أن يهنأ بحياة لا يسكن ألمها، ولا يرتاح من تعبها.
أثر النوم على الصحة الجسمية والعقلية
الأول هو تنظيم النشاط الجبهي: لأن الفص الجبهي مسؤول عن التخطيط والتنظيم وكبح التفاعلات الانفعالية الزائدة وأن الحرمان من النوم يؤدي إلى تدهور هذه الوظائف، وهذا ما استعملته بعض السجون لإضعاف نفوس المسجونين وتحصيل اعترافاتهم علما إن القانون الدولي يحرم ذلك.
والثاني هو إعادة معالجة الذكريات المؤلمة:
ففي مرحلة حركة العين السريعة يتم «نزع الشحنة الانفعالية» من الذكريات السلبية، وهو ما يُعرف بمبدأ العلاج بالتكرار في أثناء النوم. هذا يفسر لماذا يعاني المصابون بالاكتئاب واضطراب الكرب التالي للصدمة من اضطراب نوم متكرر وأحلام مزعجة. 4
والثالث هو تثبيط الالتهاب المزمن حيث يُخفض من مستوى بروتين CRP وIL-6، وهي مؤشرات التهابية مزمنة ترتبط بأمراض القلب والسرطان. وفي دراسة حديثة تبين أن قلة النوم هي أحد عوامل الإصابة بالسرطان. 5
هو الموت الأصغر
جاء الآيات في والروايات أن النوم حالة وسطى بين الحياة والموت، أو هو الموت الأصغر ويكون وسيلة للتأمل في طبيعة الوعي والروح. فالنوم ُعدّ فرصةً للانفصال عن العالم المادي، والتواصل مع العالم الروحي، مما يفتح آفاقًا للتأمل في ماهية النفس والوجود. كقوله تعالى ( وَهُوَ ٱلَّذِى يَتَوَفَّىٰكُم بِٱلَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِٱلنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰٓ أَجَلٌ مُّسَمًّى ۖ ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)الأنعام : 60 فيفهم من هذا أن النوم ليلا وفاة والاستيقاظ بعثا وهو شبه الموت الأكبر.
قال الإمام علي (عليه السلام): (اَلنَّوْمُ رَاحَةٌ مِنْ أَلَمٍ وَمُلاَئِمُهُ اَلْمَوْتُ) نهج البلاغة، فكونه راحة فالمعروف أن الأطباء يصفون ما يساعد المريض على النوم ليقلل من آلامه لكن ملائمة الموت قد تعني حيث إنه تجربةً يوميةً تُذكر الإنسان بالموت، وتُحفزه على التأمل في مصيره والاستعداد للآخرة.
ابن سينا في كتابه الشفاء شرح أن النوم يحدث عندما تنسحب الأرواح الحيوانية من الحواس إلى الداخل، مما يؤدي إلى توقف الحواس عن العمل. كما أشار إلى أن النوم يُعتبر حالة وسطى بين الحياة والموت، حيث تكون النفس في حالة استراحة مؤقتة.
كذلك ناقش الغزالي النوم من منظور روحي وأخلاقي، واعتبر أن النوم موت مؤقت، وأنه فرصة للتأمل والتفكر في العلاقة بين النفس والجسد. كما أشار إلى أهمية النوم في تجديد النشاط البدني والروحي.
لا إفراط ولا تفريط
وتشير الأبحاث إلى أن النوم غير الكافي يرتبط بزيادة خطر الإصابة بأمراض عدة مثل السكتة الدماغية والخرف وأمراض القلب والسكري، بل وضعف المناعة والنمو. ولا أدري هل ما يلاحظه الأطباء في السنين الأخيرة من زيادة معدل قصر القامة عند الشباب أن يكون أحد أسبابه المهمة هو قلة النوم ليلا والنوم نهارا؟ وهذا يحتاج إلى بحوث علمية.
أما النوم زايدا عن الحاجة فكذلك مرتبط بفقر الأعمال وضياع العمر، ولنسمع قول رسول الله ص (إن كثرة النوم يدع صاحبه فقيرا يوم القيامة) /الاختصاص.
نبذة عن بعض أهم اضطرابات النوم عند الإنسان
تُعد اضطرابات النوم من المشكلات الصحية الشائعة التي تؤثر في جودة الحياة والصحة العامة، ولكن كثيرا ما يتأخر تشخيصها، ومن أهمها:
الأرق: يُعرف الأرق بصعوبة البدء في النوم أو الاستمرار فيه، أو الاستيقاظ المبكر دون القدرة على العودة إلى النوم. ويمكن أن يكون الأرق مؤقتًا أو مزمنا. تشمل أسبابه أمورا نفسية وأخرى طبية مثل الألم المزمن واضطرابات التنفس في أثناء النوم.
انقطاع النفس في أثناء النوم لفترات قصيرة: مما يؤدي إلى تقطع النوم والشعور بالنعاس الشديد، وربما عدم السيطرة على غلبة النوم خلال النهار، وغالبا ما يصيب أهل السمنة، وتشمل أعراضه الشخير العالي والاستيقاظ المفاجئ ليلا مرات عديدة؛ بسبب الشعور بالاختناق والصداع الصباحي وغيرها.
اضطرابات إيقاع الساعة البيولوجية: تنجم هذه الاضطرابات عن خلل في التوقيت الطبيعي للنوم والاستيقاظ، ومنها ما يحدث عند الذين يتعودون السهر، فتؤثر بالتالي على جودة النوم، وتؤدي إلى النعاس وقلة كفاءة العمل والدراسة خلال النهار.
الخطل النومي: تشمل هذه الفئة من الاضطرابات سلوكيات غير طبيعية في أثناء النوم، مثل المشي في أثناء النوم والكلام والكوابيس المتكررة واصطكاك أو صرير الأسنان في أثناء النوم.
شلل النوم: هو حالة يشعر فيها الشخص بعدم القدرة على الحركة أو الكلام، وقد يصاحبها هلوسات مخيفة، وتحدث هذه الحالة عندما يكون الدماغ مستيقظًا، بينما يظل الجسم في حالة شلل النوم.
الأحلام
من أعجب العجائب ما يراه الإنسان في منامه. فلا يزال العلم متحيرا في كيفية حدوثها ومراتبها ومعانيها وأنواعها. وهنا لا يسع المقال الخوض فيه. فالأحلام تُعد وسيلة لفهم اللاوعي، وقد تحمل رسائل رمزية تعكس الحالة النفسية للفرد. 6
وعن النّبي الأكرم صلّى اللّه عليه وآله قال (الرُّؤْيَا ثَلاَثٌ فَالرُّؤْيَا اَلصَّالِحَةُ بُشْرَى مِنَ اللَّهِ، وَ الرُّؤْيَا مِنْ تَحْزِينِ الشْيْطَانِ، وَالرُّؤْيَا مِمَّا يُحَدِّثُ اَلرَّجُلُ نَفْسَهُ) ومن الواضح في النوع الثالث لدى الناس أن ما يشغل الإنسان كثيرا كالخوف والحب والهم والحزن يمكن أن يراه في منامه بصورة أو بأخرى، وهذا أيضا علم لم يكن لغير المعصوم القدرة على تحليله بهذا الشكل الدقيق. 7
القيلولة
من السبق العلمي المعصومي ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام، عن أبيه عليه السلام، قال: «إن أعرابيًا أتى النبي صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله، إني كنت رجلاً ذَكُورًا فصرت نسيًا. فقال له النبي صلى الله عليه وآله: لعلك اعتدت القائلة فتركتها؟ فقال: أجل. فقال له النبي صلى الله عليه وآله: فعُد، يرجع إليك حفظك إن شاء الله.»
ومن فوائد القيلولة على الأداء العقلي أنها تحسن الأداء المعرفي، وقد كشفت الدراسات أن القيلولة القصيرة (5–15 دقيقة) يمكن أن تحسن الأداء العقلي بشكل فوري، مع تأثيرات تستمر لعدة ساعات. وقد علمنا الأئمة -عليهم السلام- أن يكون وقتها المناسب قبل الزوال.8
آداب النوم
ذكر في مستحبات النوم عدد من الأعمال منها لحفظ الصحة كالتطهر أو التنظف وتفريغ احتقان المثانة أو البطن يُساعد على تهدئة الجهاز العصبي، مما يُحسن من جودة النوم. أما الوضوء فهو من جانب غيبي يقلل التوتر، وكذلك هو من مستحبات حفظ الروح عند مفارقتها الجسد أثناء النوم. فعن الإمام الصادق عليه السلام: (إِنَّ اَلْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَخَذُوا مَضَاجِعَهُمْ صَعِدَ اللَّهُ بِأَرْوَاحِهِمْ إِلَيْهِ ٠٠٠ وَ إِنْ لَمْ يُقدِّرْ عَلَيْهِ اَلْمَوْتَ بعَثَ بِهَا مَعَ أُمَنَائِهِ منَ اَلْمَلاَئِكَةِ إِلَى اَلْأَبْدَانِ اَلَّتِي هِي فِيها .)
وربما يفهم منها انفصال جزئي للروح عن الجسد، وهذا يُشبه ما يصفه علم الأعصاب بــ(تعليق الإدراك الخارجي) و(تنشيط الإدراك الداخلي)، أي تحويل النشاط الدماغي من القشرة البصرية إلى مراكز الذاكرة والتخيل9
• ومما لا يخفى أن أكثر الناس يفضلون بالفطرة النوم على الجانب الأيمن؛ لأنهم يجدون راحة أكثر، وهذا واضح جدا عند بعض المرضى حيث لا غنى لهم عن ذلك الوضع. والتحليل العلمي يؤكد أن النوم على الجانب الأيمن يقلل من ضغط القلب والكبد، ويُسرّع من تفريغ المعدة. 10
وذُكرت أوقات يكره فيها النوم كالغداة والعصر وبين المغرب والعشاء لما لها من أثر سلبي على الجسد حيث يخل بالساعة الحيوية التي فطر عليها الإنسان؛ مما يزيد نسبة المرض عن الإمام الصادق عليه السلام: (نومة أول النهار خرق، والقائلة نعمة، والنوم بعد العصر حمق، وبين العشاءين يحرم الرزق). فواضح أن هناك تأثيرات العقلية والنفسي والروحية تتوزع مواقيت كراهة النوم. فمثلا التوقيتات التي أشار إليها الإمام تتقاطع بدقة مع إيقاع الساعة البيولوجية، والتي تنظمها نواة «فوق التصالبية» في الدماغ. فالنوم بعد الفجر، أو بعد العصر يُحدث اختلالًا في إفراز الميلاتونين والكورتيزول اللذين يشتركان في تنظيم النوم. وهذا يحتاج كلاما تفصيلا ليس الآن محله. 11
واستحباب النوم على الجانب الأيمن الذي ثبت أنه يُحسن من وظائف القلب والجهاز الهضمي.
سؤال يحتاج إجابة:
يقول أهل التخصص أن الإنسان متوسط العمر يحتاج ما يقرب من 8 ساعات يوميا للنوم، ولكننا في الوقت ذاته نقرأ عن المعصومين ع وبعض العلماء والمجتهدين قضوا أعمارهم لا ينامون إلا قليلا رغبة في تحصيل العلم والتأليف، ولم يكن يؤثر ذلك على قواهم الذهنية والبدنية، فكيف كان ذلك؟
هذا نوم الإنسان فماذا عن المخلوقات الأخرى؟
عن أبي عبد الله ع: ( مَا مِنْ حَيٍّ إِلاَّ وَ هُوَ يَنَامُ [مَا] خلاَ اَللَّه وَحْدَهُ عَزَّ وَ جَلَّ ). فهو تعالى منزه عن النوم الذي هو حاجة المخلوقين كلهم (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ).
تشير الدراسات أن بعض الحيوانات وهي (أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) تنام بطرق مختلفة كبعض الطيور والحيتان ينام نصف دماغه، ويبقى النصف الآخر مستيقظا يدرأ به الأخطار، وطيور الفرقاطل لها القدرة على النوم قليلا في أثناء الطيران، ومنها من لا ترتخي عضلات جسمه عند النوم، فيبقى واقفا كالخيول، ومنها من ينام وعيناه مفتوحتان والبعض كالحيتان والسحالي والفيلة والطيور تمر عند النوم بمرحلة حركة العين السريعة حالها حال الإنسان؛ مما يحتمل أنها ترى الأحلام أيضا 12 ، ولكن هذا مما يصعب إدراكه أو إثباته، فتبارك الله أحسن الخالقين.
توصية:
ومن هنا يقال إن شحذ الهمم من أهل التخصصات الطبية والنفسية والعلمية الأخرى ضروري للبدء بدراسات أصيلة كالدراسات العليا من جوانب الآيات والروايات التي أشارت إلى حقائق في النوم ربما تفتح أبوابا للوصول إلى علوم جديدة.