فرز المواقف في الثورة الحسينية
الدكتور محمد البنداوي
من اهم تجليات الوعي عند الانسان هو قابليته على فرز المواقف، والا سيبتلى بلاشك بمرض الخلط بين المواقف، ومن هنا صرح الشاعر باحدى فوائد الفرز المهمة، وهي التمييز بين العدو والصديق وقت الشدة، وذلك حين قال
جزى الله الشدائد كل خير .... عرفتُ بها عدوي من صديقي
فالقابلية على الفرز عند الانسان تنقله الى مرحلة وعي الاحداث ليكون على بينة من موقف الاخر. وسيكون بتكرر الفرز خبيرا في التمييز، وتكون رؤاه المستقبلية للعمل والاشخاص مبنية على تلك النتائج، وسوف لايكرر الاعتماد على المُفرَز سلبيا، ويركن الى الناصح المخلص.
وهنا لابد ان ننوه الى ملاحظة مهمة، وهي ان الحسين في مسيرته المباركة وبنفسه المقدّسة عرض حركته على الجميع. ليعرفهم بانه بصدد إعلام الناس بما يجب عليهم من النّهوض لسدّ باب المنكر، وإلقاء الحجّة عليهم؛ كيلا يقول أحد: أنه لم يدعُني إلى نصرته.
واذا ما اردنا ان نصنف مواقف الذين عُرضتْ عليهم الحركة الحسينية، سنخرج بفرز واقعي تكشفه ردود افعال كل صنف منهم، وسننتهي في النهاية الى ان هناك اصنافا واشكالا متعددة يمكن اجمالها بالاتي:
المضحون اصحاب المهمات الخاصة
ومن نماذج هذه الفئة قيس بن مسهر الصيداوي ومسلم بن عقيل، وهؤلاء لهم مواصفاتهم الخاصة التي يصح ان نصنفهم بها على انهم من اهل المهمات الخاصة والتي تتطلب شروطا خاصة في تحمل ما يُحَمّلون؛ من البأس وكتمان السر والمضي قدما الى اخر المهمة بنَفْس
النَفَس، وعدم التراجع الا بامر القائد.
الناصحون
وبحسب تتبع واقع الحوارات نكتشف نوعين من الناصحين كشفتهما لنا النصوص الصريحة من الامام (ع)، وهما:
أ- الناصحون المخادعون
يدلنا موقف ابن الزبير مع الإمام (ع) على هذا الامر حيث كان فيمَن يأتيه اليومين المتواليين ويأتيه بين كلّ يومين مرّة ، وقد عرف أنّ أهل الحجاز لا يتابعونه ولا يبايعونه أبداً ما دام الحسين (ع) بالبلد، وأنّ حسيناً أعظم في أعينهم منه وأطوع في النّاس منه.
وكانت نصيحته الصريحة بقوله: أمَا لو كان لي بها -الكوفة- مثل شيعتك ما عدلت بها!
ثمّ إنّه خشى أنْ يتّهمه، فقال: أمَا إنّك لو أقمت بالحجاز، ثمّ أردت هذا الأمر ها هنا ما خولف عليك إنْ شاء الله. ثمّ قام فخرج من عنده.
فقال الحسين (ع): قد علم أنّه ليس له من الأمر معي شيء، وأنّ النّاس لا يعدلوه بي ، فودّ أنّي خرجت منها لتخلو له».
ب- الناصحون المخلصون
ومن النماذج التي يمكن فرزها بعنوان الناصح المخلص
أ-ابن عباس في محادثته الاولى لمّا أجمع -الحسين- المسير إلى الكوفة أتاه عبد الله بن عبّاس ، فقال: يابن عمّ ، قد أرجف النّاس أنّك سائر إلى العراق، فبيّن لي ما أنت صانع؟ قال (ع): «إنّي قد أجمعت المسير في أحد يوميّ هذين إنْ شاء الله تعالى».
قال له ابن عبّاس : فإنّي أعيذك بالله من ذلك، أخبرني رحمك الله أتسير الى قوم قد قتلوا أميرهم، وضبطوا بلادهم ونفوا عدوّهم؟ فإنْ كانوا قد فعلوا ذلك فسر إليهم، وإنْ كانوا إنّما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهر لهم وعمّاله تجبى بلادهم؛ فإنّهم إنّما دعوك إلى الحرب والقتال، ولا آمن عليك أنْ يغرّوك ويكذبوك، ويخالفوك ويخذلوك، وأنْ يستنفروا إليك فيكونوا أشدّ النّاس عليك. فقال له الحسين (ع): وإنّي أستخير الله وأنظر ما يكون.
وفي محادثة اخرى مع ابن عباس صرح الامام (ع) باخلاص وحسن نية ابن عباس بقوله: « يابن عم، إنّي والله، لأعلم أنّك ناصح مشفق، ولكنّي أزمعت وأجمعت على المسير». فقال له ابن عبّاس: فإنْ كنت سائراً ، فلا تسر بنسائك وصبيتك فوالله، إنّي لخائف أنْ تُقتل.
ب-عمر بن عبد الرحمن المخزومي: حين تهيا للمسير الى العراق قال للامام ع: أمّا بعد، فإنّي أتيتك يابن عمّ لحجّة أريد ذكرها نصيحةً، فإنْ كنت ترى أنّك تستنصحني، وإلاّ كففت عمّا أريد أنْ أقول.
فاجابه الامام: ما أظنّك بسيّء الرأي ولا هوٍ (أي هاوي) للقبيح من الأمر والفعل.
ثم قال (ع): جزاك الله خيراً بابن عم ، فقد والله ، علمتُ أنّك مشيت بنصح وتكلّمت بعقل، ومهما يقضِ من أمر يكن، أخذت برأيك أو تركته، فأنت عندي أحمد مشير وأنصح ناصح.
المتخلفون عن الفتح
وهم أولئك الذي لم يحاربوا ولم يقفوا إلى جانب من حاربه ولكنهم لم يناصروا إمام زمانهم، وهؤلاء هم على أنواع اقتصر بالحديث عن بعضها :
أ- المتخلفون الخائفون والجبناء:
فمنهم من كانت مشكلته في عدم النصرة هو الجبن والخوف وهو ما يرجع بالتأكيد إلى ضعفٍ في العقيدة، من جملة هؤلاء نقرأ قصة عبيد الله بن الحرّ الجعفي الذي كان يعرف الإمام الحسين ع جيداً ويدرك قيمة الولاء له وهو الذي قال له قرب كربلاء على عتبة اليوم العاشر حينما طلب منه الإمام النصرة: «والله إني لأعلم أن من شايعك كان السعيد في الآخرة، ولكن ما عسى أن أغني عنك ولم أخلِّف لك بالكوفة ناصراً، فأنشدك بالله أن تحملني على هذه الخطة، فإن نفسي لم تسمح لي بالموت».
إن هذا الرجل لا تنقصه معرفة بصاحب الحق لكنه جبان وشفَّاف في الاعلان عن جبنه بخلاف البعض الذي أخذ يتذرَّع بأمور أخرى لعدم النصرة.
وفي رواية اخرى قال له الحسين: وإنّي أنصحك كما نصحتني، إن استطعت أنْ لا تسمع صراخنا، ولا تشهد وقعتنا فافعل. فوالله، لا يسمع واعيتنا أحد ولا ينصرنا إلاّ أكبّه الله في نار جهنّم.
ب- المتخلفون التبريريون:
ومن هؤلاء من لم يتحدث عن عدم قناعة بالموقف بل برَّر خذلانه للإمام ببعض العناوين الدينية، ومن أمثلة هؤلاء عمرو المشرقي وابن عمه اللذين واجههما الإمام الحسين ع أعتاب العاشر فقال لهما:
جئتما لنصرتي؟ قالا له: إنّا كثيروا العيال، وفي أيدينا بضائع للناس ولَم ندرِ ماذا يكون، ونكره أنْ نضيع الأمانة.
فقال لهما (ع): انطلقا، فلا تسمعا لي واعية ولا تريا لي سواداً ؛ فإنّه من سَمِع واعيتنا أو رأى سوادنا فلَم يجبنا أو يغثنا، كان حقّاً على الله عزّ وجلّ أنْ يكبّه على منخريه في النّار.
ج- المتخلفون غير معروفي السبب:
لكن من أولئك الذين حرموا من الفتح أناس من كبار شخصيات المجتمع ومنهم من لم يصلنا تبريرٌ عنه لعدم نصرته للإمام مع مناقبيته المشهودة له تاريخياً فما تحليل الموقف من هؤلاء؟
هل نجزم بمصيرهم الأسود الجهنمي على أساس ثقافة الفرز؟
أو أن هناك تحليلاً موضوعياً آخر؟
إننا نقرأ في كلمات الإمام السيد علي الخامنئي دام ظله يقول عنهم: «كان هناك أشخاص مؤمنون ملتزمون بين الذين لم ينهضوا مع الإمام الحسين ع... فليس من الصحيح أن يعدّوا جميعاً من أهل الدنيا، لقد كان بين رؤساء ورموز المسلمين في ذلك الوقت أشخاص مؤمنون وأشخاص يذعنون بالعمل وفقاً للتكليف الشرعي، لكنهم لم يدركوا التكليف الرئيسي، ولم يشخِّصوا أوضاع ذلك الزمان، ولم يعرفوا العدو الرئيسي، وكانوا يخلطون بين الوظيفة الرئيسية والوظائف التي هي من الدرجة الثانية والثالثة».
هؤلاء قطعاً هم مخطئون لا مجال للدفاع عن عملهم، لقد كان عليهم أن يتبعوا الإمام المعصوم في تشخيص التكليف، لكن هذا أمر، والحديث عن خلفيَّاتهم ومصيرهم أمر آخر حسبنا في ذلك أدب الإمام الحسين ع حينما قال عنهم «ومن تخلَّف لم يبلغ الفتح»
التائبون عند الاصطدام بالحقيقة
وهؤلاء لحقوا بالفتح في لحظة صدق مع انفسهم، وخيروها بين الجنة والنار بين الحق والباطل، ومن نماذج هذه المجموعة :
أ- زهير بن القين حين لحق بالإمام الحسين (ع) حين استرجع حديثا كان قد حدثه به الامام في حينها فصدم نفسه بالحقيقة حين ابصرت قول الامام: إذا أدركتم شباب آل محمّد (صلّى الله عليه وآله) فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معهم منكم بما أصبتم من الغنائم؛ فأمّا أنا، فإنّي استودعكم الله.
ب- الحرّ الرياحي حين في لحظة مفصلية من حياته واختياره وعندا اصطدم بالحقيقة، او صدم نفسه بها، قال: إنّي والله، أُخيّر نفسي بين الجنّة والنّار ، ووالله ، لا أختار على الجنّة شيئاً ولو قُطّعت وحُرّقت. ثمّ ضرب فرسه فلحق بالحسين (ع) مخاطبا اياه: إنّي قد جئتك تائباً ممّا كان منّي إلى ربّي ومواسياً لك بنفسي حتّى أموت بين يديك، أفترى ذلك لي توبة؟ فاجابه الإمام (ع): نعم، يتوب الله عليك ويغفر لك.
المناصرون الى حد التماهي والانصهار
وهؤلاء ذائبون في الامام الحسين ( ع) وقضيته الى الحد الذي لو بانهم لو قتلوا مرات ومرات لم يتراجعوا عن موقفهم في نصرته والذب عنه ومن نماذج هذه الفئة، سعد بن عبد الله الحنفي: عندما عرض عليهم الحسين (ع) ان يتخذوا الليل جملا ليذهب كل شخص الى حال سبيله، قال موضحا موقفه: والله لا نخليك حتى يعلم الله انا قد حفظنا غيبة رسول الله صلى الله عليه وآله فيك، والله لو علمت اني اقتل ثم أحيا ثم أحرق حيا ثم أذر يفعل ذلك بي سبعين مرة ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك، فكيف الا افعل ذلك وانما هي قتلة واحدة، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها ابدا.
التائبون بعد فوات الاوان
وهؤلاء نوعان
أ- نادمون غير فعالين
وقد اتصحت هذه الندامة عند عبيد بن الحر الجعفي في شعره الذي ذكره لنا التاريخ
أيا لك حسرة ما دمت حيّاً
تردَّد بين صدري والتراقي
ولو واسيته يوماً بنفسي
لنلت كرامةً يوم التَّلاق
ب- نادمون فعالون
وهذه الفئة جسدت توبتها بثورة عارمة ضد بني امية عرفت بـ( ثورة التوابين ).
وختاما حاولنا في هذه العجالة ان نستقصي بعضا من النماذج لتصنيفها وتحليل بعض دوافعها ويبقى الكلام مفتوحا في تصنيف نماذج اخرى سلبية كانت اوايجابية، وانما كان مقصودنا من هذه المقالة فتح الباب امام ثقافة الفرز التي تنمي وعي الانسان للقضية الحسينية.